السبت، 23 يوليو 2016

الشعر كشاهد على التاريخ العسيري "الجزء الأول"

بسم الله الرحمن الرحيم



تعتبر القصيدة كأحد اهم الطرق التي من خلالها يمكن معرفة تفاصيل الوقائع في التاريخ البشري, وقد كانت ولا زالت القصيدة لسان حال الشارع والمجتمع وشاهداً على الكثير من الوقائع التاريخية, وقد نجد فيها من التفاصيل التاريخية ما عجزت عن نقله كتب التواريخ وأفواه الرواة, حتى أصبحت القصيدة هي الطريقة الأقرب والألطف لقلوب المهتمين بالتاريخ, فكتب التاريخ والسرد التاريخي للوقائع لا تكون عادة محببة للقارئ إلا اذا مزجت ببعض الابيات الشعرية, لذلك كان من المهم افراد مثل هذا البحث الذي يتناول أهم الوقائع السياسية التاريخية في عسير وما قال الشعراء عنها.

وبالنظر للتاريخ العسيري فكثير من الأحداث التاريخية حضرت فيها الدمة والخطوة والعرضة والمنظومة لتسجل التاريخ وتحفظ ما بقي منه ليصل إلينا عبر أفواه الرجال يتناقلونه جيلاً بعد جيل, وإذا ما نظرنا لبعض الرقصات الشعبية العسيرية وعلى رأسها الدمة والتي تعتبر رقصة حربية يعبر فيها الشاعر عن الحالة الراهنة للحدث ليخرج ويلقن احد الصفوف الجناح الأول من الدمة ثم ينتقل إلى الصف الآخر لينقلهم الجناح الثاني, ويرتجز الجميع بتلك الدمة فيحفظ الجميع ما قيل ومعها يحفظ التاريخ ما يمكن حفظه للأجيال اللاحقة.

وقد حضر الشعر ايضاً في الإصلاح القبلي بين العشائر العسيرية وكان فاعلاً وقام بدور كبير في تلافي ووقف الكثير من النزاعات في تلك الفترات.
وسنسرد لك عزيزي القارئ حسب التسلسل الزمني أهم الوقائع السياسية والتي حظر فيها الشعر كشاهداً على التاريخ:

1.        في عام 1220هـ وعندما انتصرت القوات العسيرية ودخلت مكة للمرة الثانية بقيادة الأمير عبدالوهاب بن عامر المتحمي اقام العسيريون احتفالية عظيمة وقام شاعرهم بإلقاء عرضة سجلها التاريخ وحفظتها الأجيال وتناقلها المؤرخون جيلاً بعد جيل, وذلك في عيد الأضحى من عام 1220.
ولك ان تتخيل ذلك المنظر المهيب لأهالي عسير بعد الانتصار الهائل الذي حققوه بدخول مكة وضمها للإمارة العسيرية وكيف قامت القبائل ترتجز وترقص حتى ان أهالي مكة والاشراف آنذاك وقفوا مذهولين من هذه الرقصات التي لم يعتادوا عليها من قبل [1] فقال الشاعر:

يا سلام الله على شيخ النفور
ما يعزك يا ابن مقرن عزنا
قد ملكنا في اليمن تسعة ثغور
عاشرة مكة محير[2] جندنا [3]

وقام شاعر آخر من آل عاصم من قبيلة ربيعة ورفيدة فقال هذه القصيدة:
نبدي الله قبل ما نقول
الحكم حكمه ثم لا يزول
سلام يا من قومته لله
فان الجهاد أوصى به الرسول
جيناك رعد حثحث الركون
على عدوُ خالف المله


2.      في عام 1230 وعندما قدم محمد علي باشه على رأس جيش بنفسه للإطاحة بالإمارة العسيرية بعدما أرقه سطوة رجال عسير فلم يتجه إلى نجد ولا إلى أي مكان في المملكة بل اتجه بنفسة إلى عسير وذلك في عهد الأمير طامي بن شعيب المتحمي فوصل إلى طبب وقام بإحراقها واحراق القرى العسيرية في طريقة وأسر من أسر وقتل من قتل ونصب المدافع على الجبال حتى دكها دكاّ وساواها بالأرض, فقال الشاعر مداوي المتحمي ذلك الفتى الذي وقع في الاسر العثماني هو وأبوه وقرابته ونفيوا من عسير إلى مصر ليكونوا بذلك أول المنفيون العسيريون خارج حدودهم وتلاهم بعد ذلك الكثير من الأسرى المنفيون, قال متحسراً على تلك القصور التي هدمت:
وانظر قصورٌ نثاها كل مجنون
قلبه وعقله بحب المال مفتون
يحتال في هدم بيت الجود بأديانه
وهي قصورٌ بناها كل ضرغام
يخشى اليمن سطوته والشرق والشام
من آل تحام مقري العين ضيفانه


3.      بعد إجلاء الأمير طامي بن شعيب المتحمي 1230 من عسير هو ومن معه من الأسرى, واحتلال عسير من قبل القوات التي كانت مع محمد علي باشه, قام الأمير محمد ابن احمد المتحمي "الجزار" بثورته العظيمة والتي تعتبر أول ثورة ضد الحكم العثماني في عسير تلتها الكثير والكثير من الثورات, ثورة عارمة قام الأمير ومن معه من رجال عسير بإجلاء الأتراك واستعادة حكم عسير المخطوف, كان من ضمن رجال عسير في جيش الأمير محمد ابن احمد الجزار الأمير سعيد بن مسلط والأمير علي ابن مجثل والشيخ محمد ابرمفرح المقلب بمدهمر[4], فعندما قام الأمير بثورته تقسم الجيش العسيرين إلى قسمين رئيسين الأول يقدم من الأطوار الغربية لبلدة طبب والآخر يأتي من الجبال الشرقية لبلدة طبب فقال الشاعر في ذلك:

جاك من طور الحجاز مدهمر
واقبل امجزار[5] من شرقيه
                   
فحفظ لنا هذا البيت كيف كانت الخطة العسكرية التي استخدمها العسيريون في تلك الثورة الكبرى,
وبعد ان عادت البلاد العسيرية لأميرها الجزار قالت ابنته الشاعرة العسيرية "غامية" قصيدة تتحمد الله على ان عادت الامارة لأبيها:

الحمد لله يوم صار القدر لابن احمد الهيف[6]
وأصبح حسين اللون ينظر عيون الشامتيه
من بعد ما سمي السيف مضحي والبندق الهيف
ونفسه الجزار وأسمى الفتاة الرامشية


4.      وفي نفس العام بعدما أسرف محمد علي باشه في قتل أهالي عسير وطبب وأسر أكثر أبناء ال متحمي كان المنظر مهيباً والدماء تسيل من القصور كما روي واختلط الحابل بالنابل فالأمير طامي بن شعيب المتحمي اختفى والأمير محمد ابن احمد الجزار اختفى ونزل الترك لطبب وقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا, فنقل لنا الشعر تفاصيل ذلك اليوم الأسود وكيف ان الجثث مكببةً على بعضها البعض, وكيف خرجت النساء تبحث عن أطفالهن فمن مات مات ومن خطف خطف فصور لنا الشاعر مداوي أبو دواس المتحمي في ذلك المنظر المهيب:

شبهتها كهلةٍ من جنس سنجار
ضاع ابنها في مرادي الناس وانهار
فوقفت بين خلق الله حيرانه
وبدلت عينها في قلة الراس
ومن محبة نماها تخطف الناس
وكل من لزمته شلته بازغانه
فترفعه فوق حتى تتطلع فيه
فإن لم يكن ابنها الضائع فترميه
فواحد ينكسر ظهره وسيقانه

ولك ان تتخيل ذلك الموقف عندنا تبحث الأم عن ابنها بين القتلى ولا تجده.


5.      في عام 1238هـ عندما ضاق العسيريون ذرعاً بتصرفات امير عسير المؤقت شريف مكه ابن عون وبعدما تعرض الأمير سعيد بن مسلط  لإهانة بالغة من الشريف ابن عون على مرأى ومسمع من القبائل وذلك بعدما طلب ابن عون من الأمير سعيد اللحاق به إلى السليل للهجوم على وادي الدواسر فتأخر في الحضور, فنشب هذا الخلاف وعاد الأمير سعيد إلى عسير وقد استشاط غضباً هو ومن معه فاجتمعوا بالقرب من مكان يقال له المجمعة على تلال السودة ليقوموا بثورة عظيمة وسجل الشاعر المحلي هذه القصيدة:

المجمعة للخير مجمعا
من حيث صلح مغيد وألمعا
والخير أمسى في سعودها
وإلى لبسنا كل مشرعاً
فالواجب ان نسمعا
من يكفر النعمة يعوقها



وبعد ذلك توجه العسيريون لتحرير بلدة طبب في الليل وانتصروا انتصاراً باهراً نتج عنه جلاء القوة العثمانية من عسير للمرة الأولى منذ عام 1234هـ وبعد ذلك النصر الهائل تجلى شعراْ ال الحفظي[7] بكثير من القصائد حول تلك الواقعة ومن أهمها:

وعينكم الأمير حباه ربّـي
وعوفي في الحياة والمصير
سعيد طابق الاسم المسمى
وشاهد ذا الفتوح مع النصور
عليه تحية تغشاه مني
دوامــاً بالأصائـل والبكور[8] 
ومن قد ضمه صمط اصطحاب
على التقوى فبورك من وزير


6.      بعدما تولى الأمير علي بن مجثل إمارة عسير 1242هـ بعد وفاة الأمير سعيد بن مسلط وبعدما توسعت حدود إمارته  لتشمل جميع قبائل عسير وقحطان وشهران ورجال الحجر وبارق ومحائل وقنا حتى تخوم صبيا وضمد في المخلاف السليماني ووصلت إلى زبيد والحديدة وجزر دهلك في ارتيريا وبعدما ذاع صيته ووصلت اخبارة اصقاع الجزيرة العربية وقام الأمير باستعادة المخا من القائد التركي تركجه بلماز قال أحد شعراء نجد أحمد بن مشرف يمدح فيها ابن مجثل ويظهر بعض اعماله في تلك الغزوة:

سما للعلا حقاً علي ولم يزل
يروح باسباب الجهاد ويغتدي
وكم عسكر للمشركين ابادهم
بحد الظبى والسمهري المسدد
وصيرهم صنفين مابين هالك
وبين اسير بالحديد مصفد
ومازال يغزوهم ويرمي ديارهم
بفرسان حرب في الدلاص المسرد
وفتح المخا بالسيف للدين اهله
وزجر وإنذار لاهل التمرد[9]

7.      في عام 1251 وعندما زحفت الجيوش العثمانية لعسير في عهد إمارة الأمير عائض بن مرعي واستطاعت السيطرة على البلاد العسيرية بالكامل فجمع الأمير عائض رجاله وجهزهم للهجوم, فهبوا هبة رجل واحد على المراكز التي اتخذها العثمانيون لجندهم, فهاجم العسيريون السقا والحفير والمقضى والعزيزة وريدة والشعبين ومرار وكسان وحضحض, ومني العثامينون بهزيمة نكراء وطردوا من عسير فقال الشاعر يصف أحوال تلك المعراك:

أيا ام عبد مالك والتشرد
ومسراك بالليل البهيم لتبعد
ومأواك اوصاد الكهوف توحشا
ومثواك افياء النصوب وغرقد

إلى ان قال يصف تلك المعارك :
وفيها ليوث الازد من كل شيعة
يصالون نار الحرب حزاً لمفسد
وفيها رئيس عائض حول وجهه
حياض المنايا صدرت كل مورد
فيالك من يوم الحفير وما بدا
لريدة من طول الغمام الملبد
ويالك من أيام نصر تتابعت
بها من شاوظ الحرب ذات التوقد
تطامت رقاب الروم فيها عيوقها
كما عاق دود بالجراد المقدد[10]

وقد جاء هذا النصر كإجلاء للقوات العثمانية حتى بعد وفاة الأمير عائض بن مرعي ولم تهجم القوات العثمانية على عسير منذ 1251 حتى 1288 وذلك بعد عقد عدة اتفاقيات بين الإمارة العسيرية والدولة العثمانية.

8.      في عام 1280 وفي عهد إمارة الأمير محمد بن عائض رغب في ضم المخلاف السليماني إلى الامارة العسيرية فزحف على رأس جيش كثيف فدخل المخلاف سلماً وتقدم إلى قصر الحسن بن محمد فهدمه مع عدة حصون حربية أخرى وبهذا الاجراء تمكن من ضم المخلاف السليماني لإمارته فقال الشيخ عبدالخالق الحفظي هذه القصيدة يهنئه فيها بهذا النصر المبين:
هنئت بالنصر في عيش عليك هنيء
وزادك الهل من صنعاء على عدن
ولا برحت على الأعداء منتصراً
في الشرق والغرب مع شام ومع يمن
وقد سمعت نباً من عندكم عجباً
اراح مكتئباً من صولة الزمن
انك قد ملكت القصور النائفات على
ابي عريش الشهير الفرد في المدن
تركتها صفصا بالقاع هامدة
كأنها من قديم الدهر لم تكن
وكيف أصبح دار النصر[11] منجدلاً
طود القصور الذي اربى على الفتن
وصار نجران [12] دكاً بعد رفعته
وهو الفريد الذي ما مثل ذاك بني
والشامخ[13] الشامخ المهدوم شامخ
قد فر منه شرف الأصل والفنن [14]

وبهذا نختم الجزء من الأول من هذا البحث حول الشعر كشاهد على الأحداث التاريخية وانتظرونا في الجزء الثاني لنتاول فيه ما نقله لنا الشعر حول بعض الأحداث السياسية المتأخرة وبعض الفتن القبلية والتي استطاع الشعر ان يكون عاملاً مهماً في حلها. 




[1] تاريخ الأمراء الذين ملكوا الحرمين – مخطوط ص 219
[2] محير في الثقافة العسيرية هو محجر – أي المنطقة التي يمنع فيه الرعي والتنقل لمدة زمنية محددة ويضرب فيها حظر التجول ويبدوا ان العسيريون قاموا بذلك في مكة وفرضوا حظراً للتجول.
[3] نقل هذه الدمة وما بعدها الدكتور عبدالله أبو داهش في كتاب الظل الممدود
[4] لقلب الشيخ محمد ابر مفرح المغيدي بمدهمر وقد توراثت هذه الأسرة هذا اللقلب حتى ان الشيخ أحمد بن سعد ال مفرح المتوفى في بداية القرن الحالي يلقب بمدهمر
[5] امجزار لقلب اطلقه العثمانيون على الأمير محمد ابن احمد الجزار يشبهونه بأحمد باشه الجزار اشتهر بالشدة والحزم  المتوفي عام 1219.
[6] الهيف لقب الأمير محمد ابن احمد المتحمي وهو لقب آخر اطلق عليه, بعدما اطلق العثمانيون عليه لقب الجزار نسبة إلى احمد باشه الجزار القائد العثماني.
[7] إبراهيم الحفظي – نفحات من عسير ص124
[8] المرجع السابق ، ص124 .
[9] بن حميد - أديب من عسير ص 42
[10] تاريخ عسير للحفظي ص 240
[11] قصر يسمى دار النصر بناه الأمير علي ابن مجثل
[12] قصر بابي عريش يمسى نجران تهدم مع تلك القصور
[13] قصر بابي عريش يسمى الشامخ
[14] النعمي – تاريخ عسير ص262

هناك 4 تعليقات:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
    أخي الكريم قرأت موضوعك التاريخي الجميل ،، و أود التواصل معك بشأن بعض الأمور الخاصة ببعض أمراء الأمير عبدالوهاب أبو نقطة ،،في جزيرة فرسان خلال عام 1218 ،،،أرجو منك مراسلتي عبر الإيميل ،،
    mhdabs93@gmail.com

    ردحذف
  2. الله يحفظك على هذا النقل المبارك وننتظر منكم المزيد من الفوائد

    ردحذف
  3. بحث رائع وموضوع تاريخي جميل شكراً لك

    ردحذف
  4. بارك الله فيك وشكرا لجهودك في الطراز التاريخ العسيري

    ردحذف